نصار إبراهيم
"الأموال الكثيرة لا تعني بالضرورة عملا فنيا متميزا" (حاتم علي).
رسائل عديدة طيرها التشييع المهيب للمبدع حاتم علي فحلقت كعصافير السنونو من أقصى بلاد العرب إلى أقصاها.
دموع وفجيعة وإحتفاء وفقد وتقدير واحترام. هذا الحزن والاحتفاء الشامل والرصين كان شهادة اعتراف من الناس لمعنى الفن الرصين الصادق والعميق، الفن الذي يحترم الوعي الجمعي وقدرته على التقاط الفكرة ببراعة وذكاء وذوق رفيع.
أما الرسالة الأهم لحاتم علي فكانت أن المبدع الحقيقي، ومهما كانت اللحظة والمرحلة بائسة وصعبة وهابطة، سيفرض ذاته ويصمد ويتقدم كحصان أصيل، ويتجاوز الإبتذال والسطحية والسذاجة.
كل هذا لأن حاتم علي كان يرى أبعد وأشمل وأعمق، لم يخدعه الهبوط ولم تجرفه سيول "الفن" المبتذل. ذلك لأنه كفنان ومثقف ومبدع كان يحترم ذاته، ويحترم الوعي العميق للناس، ويعرف أن الزبد الذي يطفو على السطح ليس إلا مصيدة تجذب إليها من لا يملك في أعماقه ركائز راسخة تحرسه من السقوط.
لهذا ذهب في تجربته وأعماله الإبداعية إلى الأعماق يحفر وينبش بهدوء وصبر وذكاء ثم يبدع.
تقول صديقته د. نوال الحوار في مقال لها بعنوان (الصقر الناجي من فخ الإبتذال..):
"كتب حاتم علي في بداية حياته مجموعته القصصية "موت مدرس التاريخ العجوز". كان في هذا العنوان وغيره اشارات واضحة لعشقه هذه المادة التي استقى منها أول أعماله التاريخية وهو مسلسل "الزير سالم"، الذي كتبه العملاق ممدوح عدوان. كان عملهما هذا اللبنة التي أسست لمدرسة الدراما التاريخية التجديدية، ومن هذا التجديد التاريخي بالضبط قاد لاحقا سلسلة من الاعمال التاريخية في لقاء عميق ووافر العطاء مع وليد سيف...
لقد فهم هذا الخجول الصامت أن العرب أمة ذات حاضر مثقل، وتاريخ يرشح بالكثير من المنارات النهضوية التي تدعو للاعتزاز. فعاد الى الكنز القديم ينهل منه مع وليد سيف حقائق مجيدة، حوّلها هذا الثنائي الاستثنائي الى منارات درامية عربية بمعاير الزمن الراهن، وحققا نجاحا باهرا في كسرهما كل الحواجز بين الشاشة والجمهور، فكانت الباكورة- التحفة مع "صلاح الدين" .... ثم تتالت الأعمال في الثلاثية الأندلسية: صقر قريش . ربيع قرطبة . وملوك الطوائف" ( موقع 5 نجوم 2 كانون ثاني 2021).
أجمل ما في تجربة حاتم علي الإبداعية هو استنادها إلى المعرفة والبحث والتأني والقراءة الناقدة، والإلتزام بقضايا الناس كبرى دون الاستهانة بقضاياهم وشؤون حياتهم اليومية، وكل هذابعيدا عن المقاربات المعلبة الفقيرة في المعنى والمبنى والمضمون والتعبير والتقديم.
بهذا المعنى كان حاتم علي صاحب مشروع ثقافي حقيقي، فلم يخض في بحر الفن والدراما كيفما اتفق، وإنما كان يعيد قراءة التاريخ والواقع الاجتماعي، يعيد بناء السياقات وتفسير الأحداث. يعيد غربلتها ويتخلص من الشوائب، ثم يقدم أعماله بأعلى درجة من الحساسية والاحتراف والاحترام لذوق ووعي لناس. لم يتعامل مع الجمهور كقطيع، ولم يخاطب غرائزه الجنسية والعاطفية بابتذال، ولم يقارب قضاياه الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية بسطحية وسذاجة، بل كان يكشف لهم أجمل ما فيهم، وفي ذات الوقت كان يكشف بإبداع وبراعة تناقضاتهم، ويعري الظواهر ويعيدها إلى أصولها.
تجلى كل هذا في أعماله التاريخية والاجتماعية، بعيدا عن المبالغات والخطاب الفارغ. ذلك لأنه كان يدرك أن التاريخ حقل خطر، والأهم أنه يؤمن أيضا أن تاريخ هذه الأمة يحمل إرثا وأثقالا مدهشة، لكنه في ذات الوقت مثقل بالتزييف والأكاذيب والمبالغات والتشويه، فراح يدرس ويدقق وينتقد ثم يبدع، دون أن يغادر خط واجبه كعربي يحمل هوية وأحلاما وطموحات شاسعة.
وكأني بهذا المبدع كان يسابق العمر والأيام، فأبدع بلا توقف: الفصول الأربعة، صراع على الرمال، الزير سالم، صلاح الدين، صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف، الملك فاروق، عمر، التغريبة الفلسطينية، قلم حمرة، عصي الدمع، أحلام كبيرة، وأفلام: العشاق، سيلينا، الليل الطويل.
حاتم علي ابن الجولان السوري العربي لم يقبل لحظة أن يكون بوقا، فلم يسقط في التهريج، ولم يتزحزح شعرة عن مشروعه الثقافي التنويري، لقد كان بصورة ما يعيد كتابة التاريخ، وكانت فلسطين كقضية قومية وإنسانية حاضرة وراسخة في أعماقه.
"ربما الكلام عن فلسطين-القضية اليوم ما عاد يجذب كثيرين، اما بسبب تكسر نصال الحروب على نصال الفقر والمآسي والأمراض، أو لأن هذا الزمن ما عاد للأسف عند البعض زمن فلسطين.
من أكثر المشاهد المؤثرة التي أبكتني في مسلسل "التغريبة الفلسطينية" هو مشهد رثاء "علي" لأخيه حسن حين جاءهم خبر استشهاده دفاعاَ عن الأرض ضد الغزاة الصهاينة المحتلين: "أخي .. ذلك الشاب النبيل الذي قاسَمَني وقاسَمْتُهُ عُمرَ الطفولة و شراع السنديان، ذلك الطفل.. عرف كيف يحل لغز الأرض وطلاسم الماء، كنت أتعلم لغة الكتابة وقواعد النحو، حينما كان يتعلم لغة النهر والصخر والسنبلة، كنت أمتطي المعجم حين كان يمتطي الريح والعواصف، كنت أكتشف الأسئلة حين كان يعيش الأجوبة، كان يظن أني الجزء الذي لم يكنه، والآن أعرف أنه الجزء الذي لم أكنه.. هناك، في مكانٍ ما أجهله وتعرفه النجوم، يرقد أخي، يلبس جلد الأرض التي أَحبها و يستعير منها نبضه الجديد. أنا هنا أبحث عن الوطن الضائع في موال شعري، وهو هناك يكتشف الأرض فيه.. على عينيه ينمو عشبها وزعترها.ومن جرحه تتفتّح شقائق النُعمان وعروق الشومر البري، هناك هو تكتبه الأرض وتعيد كتابته في كل فصلٍ من فصولها، وأنا.. أنا الذي سرقت منه الكتاب والمدرسة والمحبرة، أنا هنا أبحث عن الكلمة التي تصفه، أستعير جلده لأكتب عليه شعري فيه، و لأشعر ببعض الرضا لعلّي أتابع حياتي من جديد. أخي.. أيها الشاب النبيل الذي ظلمناه، وأنصفته الأرض".
في هذا المقطع النبيل تكمن لغة شفافة وصورة نقية وبليغة لعلاقة بين شقيقين كانا ضمن قافلة التغريبة.... من منا لم يتأثر بمشهد رشدي الذي مزّق المنحة وحمل السلاح؟ هنا كانت ثنائية رائعة جسدها حاتم امام الكاميرا كممثل وخلفها كمخرج" (د. نوال حوار- مصدر سابق).
لقد نجح حاتم علي نجاحا باهرا في الارتقاء بالناس نحو الفن العالي، لغة وأداء وأسئلة وقضايا، وبهذا كان في أعماله يعمل بصبر وعمق لكي يعيد الناس وعي ذاتهم، وفي هذا رد ثقافي هائل في مواجهة السقوط والانهيار وثقافة الهزيمة والاستلاب والتخلي السياسي والاجتماعي عن الذاكرة والحقوق القومية والوطنية.
بهذا أصبح حاتم علي بتجربته وإبداعه هو بذاته الرسالة لكل من يشتغل في الحقل الثقافي والإبداعي. لقد أصبح مقياسا ومعيارا تقاس على أساسه جودة الأعمال وعمقها وجديتها والتزامها.
هذا الاحتفاء والتقدير لحاتم علي يضع كل من يدعي أنه فنان أو مثقف أمام امتحان صعب وقاس، فعليه الآن أن يعيد تقييم ذاته، وأن يملك الجرأة والشجاعة والوعي لكي يحاسب نفسه. وعلى من يقدم نفسه في ميدان الثقافة والإبداع أن لا يخدع ذاته بأن الناس لا تعرف ولا تملك الوعي والقدرة على الحكم.
لقد أسقط حاتم علي بثباته ووضوحه وعلو أعماله أوهام ورهانات الهبوط بداعي عدم قدرة الناس على الوعي، كما كشف أيضا بؤس حوامل ثقافة التشويه والضحالة والخواء الأخلاقي والنفسي والسلوكي والسياسي، سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات أو أنظمة أو جماعات.
وعليه من يطمح أو يريد مثلا أن يقدم نفسه شاعرا أو روائيا أو كاتبا أو مسرحيا أو مخرجا أو موسيقيا أو رساما، أو مصورا أو سينمائيا أو.. أو...، عليه ينتبه وعليه أن يتعب طويلا ويتعلم ويحفر وينحت ويقرأ ويدرس ويتواضع، عليه أن يشتغل على نفسه ليلا نهارا وبلا توقف لكي يكون بمستوى المسؤولية الثقافية. وغير ذلك لن يفيد لا النفاق ولا المديح ولا شراء التعاطف. فمن لا يهيئ نفسه ويزودها بالشروط اللازمة للتحليق في حقل الثقافة والإبداع عليه أن لا يحاول الطيران انطلاقا من مقولة أن الناس لا يملكون الوعي على التمييز وأن كل شئ سيمر عليهم ... لا ليس كل "فن" سيمر، وإن مر فإنه فقط لكي يسقط لاحقا ويطويه النسيان دون أسف. وكم هو الفرق شاسع بين من يسقط بعد يوم أو أسبوع أو عام، ومن يبقى صاعدا ومحلقا في الأعالي وذاكرة الناس.