نصار إبراهيم
"الإنسان ينتمي للأرض، الأرض لا تنتمي للإنسان" (سياتل).
وأنا أتابع ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأيام، لم أجد ما يمكن قوله أكثر عمقا وبسالة مما قاله بما يشبه النبوءة، الزعيم الهندي الأحمر الشجاع سياتل قبل 167 عاما وهو ذاهب نحو أقداره، فهل كان يدرك أنه سيأتي يوم سيواجه فيه "الرجل الأبيض" في أمريكا ذاته، وستواجه أمريكا ذاتها؟. وغير ذلك كيف يمكن تفسير هذه الكلمات التي أنهى بها سياتل خطبته: "إنني أعلم أن إلهنا إلهكم واحد، وأن هذه الأرض غالية عليه. وان إيذاء الأرض لا بد أن يثير غضب خالقها. لسوف تمضي أنت أيضا أيها الإنسان الأبيض. وربما ستمضي قبل غيرك. هيا أمعن في تلويث فراشك ولسوف تختنق يوما في قمامتك.واعلم أن الرجل الأبيض أيضا لن يفلت من يد المصير. وفي النهاية... لعلنا أخوان وسوف نرى".
و"سياتل"هو زعيم هنود قبائل "دواميش" و"اسكواميش" والقبائل الهندية المتحالفة في الشمال الغربي من أمريكا، والذي سميت أكبر مدن شمال غرب الولايات المتحدة الأمريكية المطلة على المحيط الهادي "سياتل" على اسمه، بالضبط كما تمت تسمية طائرة (الأباتشي) الأمريكية على اسم قبيلة الأباتشي الهندية التي تمت إبادتها، وكذلك طائرة (بلاك هوك) التي تحمل أيضا اسم أحد زعماء القبائل الهندية.
ألقى سياتل خطبته المعروفة "خطبة الهندي الأحمر الأخيرة"أمام إسحق ستيفنز حاكم مقاطعة واشنطن عام 1854 قبل توقيع معاهدة يسلم بموجبها أراضي قبيلته للمستوطنين البيض. حيث نهض سياتل بعد أن فرغ ستيفنز من إلقاء كلمته بكل العظمة التي يتحلى بها السناتور، ووضع إحدى يديه على رأس الحاكم ثم أشار بسبابته بتأدة إلى السماء وشرع بإلقاء خطابه الخالد بصوت هادئ وعميق:
"زعيم واشنطن الكبير" يقول لي، في رسالته، أنه يريد أن يشتري بلادنا. ويقول لي أنه صديقي، وأنه يكنً لي مودة عميقة.
ما ألطف زعيم واشنطن الكبير، ولا سيما أنه في غنى عني وعن صداقتي!.
لكننا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير،فنحن نعرف أننا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجئنا الرجل الأبيض مدججا بسلاحه وينتزعها.
كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟.
ما أغرب هذه الأفكار!.
كيف نبيع طلاقة الهواء؟كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها؟.
كل شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي. كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الإحراج، كل حشرة تمتص ما تمتص أو تطنّ؛كله مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة.
النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الإنسان الأحمر. موتى الإنسان الأبيض ينسون مهدهم عندما يمشون بين النجوم. أما موتانا فأبداً لا ينسون الأرض الطيبة لأنها أم الإنسان الأحمر. نحن منها، وهي منا.
الأزهار العاطرة أخواتنا. الغزال والحصان والنسر العظيم كلهم إخوتنا. القمم الصخرية. ندى المروج. ودفء جسد الحصان، كلهم من هذه، الأسرة الواحدة. إذن فحين يقول زعيم واشنطن الكبير أنه يريد أن يشتري بلادنا، إنما يسألنا ما لا يطاق.
زعيم واشنطن الكبير، يقول في رسالته أنه يريد أن يشتري بلادنا، وأنه سيهبنا مطرحاً يلمّنا، نعيش فيه سعداء وأنه سيكون لنا أبا وأننا سنكون أبناء له، لذا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير حول شراء بلدنا، علما بأنه عرض لا يطاق، لأن أرضنا مقدسة.
هذه المياه التي تشع وهي تجري في السواقي والأنهار ليست مياها، إنها دماء أجدادنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أنها مقدسة. وقل لأبنائك أنها مقدسة. كل طيف يتراءى في صفاء مياه البحيرات ينبئك عن ذكريات شعبنا وتاريخه. وما تهمس به المياه هو صوت جدي. هذه الأنهار اخوتنا. أنها تطفئ ظمأنا، وتحمل مراكبنا، وتطعم أطفالنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر وعلّم أبناءك أن هذه الأنهار إخوتنا وعليك أن تحبها كما تحب من ولدته أمك.
ينهزم الإنسان الأحمر أمام زحف الإنسان الأبيض مثلما ينقشع ضباب الجبال أمام شمس الصباح. لكننا نرى رماد آبائنا مقدساً، وقبورهم بقيعا مقدساً. وهكذا نرى الهضاب والأشجار. ونعتبر هذه البلاد قسمتنا. ونعرف أن الرجل الأبيض لا يفهمنا. تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة. لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى. إنه لا يرى الأرض أختاً له بل عدوا يقهره ثم يمضي. ها هو يهجر قبر أبيه ولا يعبأ، ويتركه وراء ظهره ولا يعبأ. إنه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ. هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية. وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلاّ سلعة تسرق أو تباع كالأغنام والخرز. إن جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها ألا صحراء ....
"لا يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحل ويرحل شبرا من أرض دون ضجيج. لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع، أو لسماع طنين أجنحة الحشرات. ولكن لربما أنني متوحش،لا افهم أن الضوضاء تصم الأذنين. وما يتبقى للحياة حين يعجز الإنسان عن سماع صرخة طائر السبد، أو يصغي في أعماق الليل لنقاش الضفادع حول البركة. لكن لربما أنني إنسان أحمر، لا افهم.
"الهنود يفضلون صوت الريح العذب وهي ترمح فوق بركة المياه، ورائحة الريح المعشَّقة بمطر الظهيرة أو المعطَّرة برائحة الصنوبر.
"الهواء عند الإنسان الأحمر ثمين، فكل ما على الأرض يتنفس منه. الحيوانات والأشجار والبشر كلهم يتنفسون من نفس واحد، أما الإنسان الأبيض فيبدو أنه لا يعرف أنه يتنفس، وكأنه رجل مات منذ أيام. كل ما فيه بليد حتى النتانه. ولكن إذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أن الهواء ثمين عندنا، وأن روح الهواء تتغلغل في كل من يتنفس منه. أن الريح التي وهبت جدنا الأكبر أول شهيق هي التي استردت منه زفيره الأخير. أن على هذه الريح أن تمنح أبنائنا روح الحياة. فإذا بعناك بلادنا فاجعلها حراماً، وقدّسها كأنها مقام يحج إليه الرجل الأبيض ويتذوق فيه الريح المحلاّة بأزهار المروج.
وإذن، فسننظر في عرض شرائك بلادنا، وسيكون لنا شرط واحد إذا قبلنا ببيعها: أن يعامل الرجل الأبيض حيوانات الأرض كما يعامل أخواته.
لربما أنني متوحش ولا أفهم. لكني شاهدت ألف جاموس "بيسون" منتن في البراري قتلها الرجل الأبيض من قطار عابر. لعلّي متوحش ولا أفهم كيف أن هذا الحصان الحديدي المدخن أعظم في عينيه من الجاموس الذي لا نقتلها إلا لكي نبقى على قيد الحياة.
ما الإنسان بدون هذه الحيوانات؟ إذا انقرضت فسوف يموت من توحش روحه. ما يصيب الحيوانات سرعان ما يصيب البشر. فكل الأشياء متمارجة.
لابد ان تعلّم أبنائك أن أديم الأرض تحت أقدامهم من رفات أجدادنا. بذلك يحترمون الأرض.علمهم ما علمنا أولادنا أن هذه الأرض أمنا، وان المكروه الذي يصيبها سوف يصيب أبناء الأرض. إذا بصق إنسان على الأرض فإنما يبصق على نفسه.
هذا ما نعلّم، أن الأرض لا تنتمي إلى إنسان، بل هو الإنسان ينتمي إلى الأرض. هذا ما نعلّم: كل الأشياء متمارجة كما الدم الذي يوحد العائلة. كل الأشياء متمارجة. ما يصيب الأرض سوف يصيب أبناء الأرض. الإنسان لا ينسج عنكبوت الحياة بل هو خيط في هذا النسيج. وما يفعله للنسيج يفعله بنفسه.
لكننا سننظر في عرضك أن نذهب إلى المطرح المخصص لشعبي لنعيش وحدنا بسلام. لم يعد يهم أين نمضي بقية حياتنا. إنها أيام معدودة، بضع ساعات إضافية، بعض شتاءات... ثم لن يكون هناك أطفال من هذه الشعوب العظيمة التي عاشت يوما على هذه الأرض، وهاهي ذي شراذم ضئيلة تتسكع في أعماق الأدغال. لن يكون هناك أطفال يبكون على قبور بشر كانوا ذات يوم مثلكم أقوياء طافحين بالآمال. ولكن لماذا أبكي زوال شعبي؟ إن القبائل لا يصنعها إلا الرجال. أما الرجال فيجيئون ويرحلون مثل أمواج البحر. حتى أنت أيها الرجل الأبيض الذي تمشي مع ربك وتحاكيه صديقاً لصديق لن تنجو من هذا المصير. ولعلنا - في النهاية -إخوة وسوف نرى.
أعلم شيئاً واحداً قد يكتشفه الرجل الأبيض يوماً. أعلم أن إلهي وإلهه واحد. إنكم تعتقدون أنكم تملكون هذا الإله مثلما إنكم تريدون أن تملكوا أرضنا. إنه إله الإنسان وقد وسعت رحمته الإنسان الأحمر والإنسان الأبيض. إن هذه الأرض غالية عنده. وان إيذاء الأرض لا بد أن يثير غضب خالقها. لسوف تمضي أنت أيضا أيها الإنسان الأبيض. وربما ستمضي قبل غيرك. هيا أمعن في تلويث فراشك ولسوف تختنق يوما في قمامتك.
لكنك - ولحكمة لا يعرفها إلا الإله الذي جاء بك إلى هذه البلاد- أعطاك سلطانا على الأرض وعلى الإنسان الأحمر. إن هذا المصير ما يزال لغزاً عندنا.
أين الأيكة؟ ولَّت.
أين النسر؟ اختفى.
ما معنى أن تقول وداعا للصيد وللحصان الرشيق؟.
إنها نهاية الحياة وبداية مغالبة الموت.
وإذن، سننظر في عرضك أن تشتري بلادنا. فلئن رضينا فلكي نأمن على أنفسنا في ما وعدتنا به من مطرح نعيش فيه. هناك. ربما، سوف نعيش آخر أيامنا. وحين يزول آخر إنسان أحمر فوق الأرض، ولا يبقى منه إلا ظلال سحابة تعبر البراري ستظل هذه الشطآن والغابات مسكونة بروح شعبي.
وإذن، إذا بعناك أرضنا فأحبها كما يحب الوليد خفقان قلب أمه.
وأذن، إذا بعناك أرضنا فأحبها كما أحببناها، واستوص بها خيرا كما استوصينا. واحتفظ من أرضنا بصورة لها مثلما كانت يوم أخذتها.
وبكل ما أُعطيت من سلطان، وكل ما فيك من عقل وقلب: استوص بأرضنا وصنها.
احبها كما يحبنا الله جميعا
إنني أعلم أن إلهنا إلهكم واحد، وأن هذه الأرض غالية عليه. واعلم أن الرجل الأبيض أيضا لن يفلت من يد المصير. وفي النهاية... لعلنا أخوان وسوف نرى".