البعض لا يعجبه شيئا. فيكره ويحقد أن يرانا نتقدم ولو خطوة واحدة للأمام، فيُسفِّه أيَّ تضحية أو محاولة تعطينا انتصارا، ولو نسبيا، لترسيخ الوعي والثقة بجدوى المق او مة بمقاييس الصراع الطويل. هذا ما سمعناه وتابعناه أثناء وبعد ملحمة شعبنا الأسطورية في غزة. حيث بادر البعض باسم المنطق والعقلانية إلى التشكيك والاستهتار والسخرية من كل ما انجزته الم ق اومة الفلسطينية في المواجهة الأخيرة. لهذا راحوا يروّجون لفلسفة الهزيمة وزرعها في وعينا باعتبارها قدرٌ لا يُرَد. ولكي يبرهونوا على "دقة وعلمية" منطقهم فإنهم تعاملوا مع الجولة الأخيرة وكأنها المعركة النهائية. وعليه بما أن القدس لم تتحرر وإسرائيل تواصل سياساتها، إذن ليس هناك أي نصر. إنهم يبذلون المستحيل لكي يعطوا العدو نصرا لا يراه، ويفرضون علينا هزيمة لم تتحقق.
مشكلة هذا البعض أنه يحسب الانتصار وفق معادلات "السوبر ماركت"، اي كالفرق بين سعر شراء صندوق الكوكاكولا وسعر البيع، مجرد أرقام وإحصاءات؛ وفق هذا المنطق يبني هؤلاء معادلاتهم، أي بحساب عدد تضحيات الشعب الفلسطيني وخسائره المادية مقارنة بخسائر العدو البشرية والاقتصادية، مثلا "عشر دزينات من شعبنا" مقابل "دزينة" من الطرف الآخر. وبما أن "العدد" عندنا أعلى فمعنى هذا أننا هزمنا والعدو انتصر. أما بالنسبة للخسائر الاقتصادية التي هي أعلى عند إسرائيل (2.14 مليار دولار، وفق ما أفاد به مصدر مسؤول بوزارة المالية الإسرائيلية لصحيفة "يديعوت أحرونوت") فيتم إيجاد حل لوغاريتمي لها فيقولون: إسرائيل قادرة على التعويض، يعني خسائرها لا شيء. إنها لعمري "حِسْبةُ ضيزى".
لو كان الأمر بيد هؤلاء "العباقرة" فإن الجزائر التي قدمت ثلاثة ملايين ونصف شهيد مقابل بضعة آلاف من جنود المستعمر الفرنسي تكون هي المهزومة وفرنسا هي المنتصرة. ولكانت فيتنام التي قدمت ملايين الشهداء ومدن مدمرة وأرض محروقة بالنابالم مقابل 56 ألف جندي أمريكي هي الخاسرة وأمريكا هي المنتصرة، ولكانت روسيا التي قدمت 26 مليون ضحية في الحرب العالمية الثانية مع مسح مئات المدن بكاملها عن وجه الأرض هي المهزومة بامتياز مقارنة بخسائر ألمانيا النازية.
هذا البعض المهزوم مسبقا هم التعبير الكثيف عن الاستلاب واحتلال الوعي. إنهم يثقون بالعدو ومفرداته وثوابته وخطابه أكثر مما يثقون بذاتهم أو بشعوبهم.
أما دروس الشعوب والتاريخ فلهما منطق مختلف تماما: انتصارات الشعوب وكلفة تحررها لا تخضع لحسابات السماسرة الصغار. إنها ترتبط بمعادلات تحقيق الأهداف الوطنية أو السير خطوة خطوة نحوها بكل ما يترتب على ذلك من أكلاف هائلة. إنها ترتبط بالقدرة على فرض تغيير قسري تدريجي في موازين القوى بالمعنى الاستراتيجي والتكتيكي لصالح قوى التحرر والمقاومة. فأحد قوانين حركات التحرر في التعامل مع موازين القوى المختلة لصالح العدو تقوم على تحقيق انتصارات صغيرة متراكمة هي المقدمة الضرورية لتحقيق الانتصار النهائي الحاسم. لهذا يقال: الحرية ثمنها باهظ.
فكرة هذا النص القصير صاغها شاعرنا الكبير محمود درويش وبطريقة جميلة كما يلي:
"أيها المارُّون بين الكلمات العابرة
منكم السيف – ومنَّـا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنَّـا لحمنا
منكم دبابة أخرى- ومنا حجرُ
منكم قنبلة الغاز- ومنا المطرُ
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقصٍ.. وانصرفوا
وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداءْ.
و علينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء!" ( من قصيدة "عابرون في كلام عابر").